سوق الدواء
كل ما تريد معرفته عن سوق الدواء

د. شريف كمال يكتب.. تكلفة سوء جودة خدمات الرعاية الصحية: تأثيرات اقتصادية وإنسانية

الموارد دائما ماتكون محددوة، مما يدفعنا في كافة خطواتنا الى دراسة التكلفة الاقتصادية والمردود الاستثماري علي كل ما نريد أن نقوم به من أعمال بشكل عام، وفي مجال الرعاية الصحية على وجه الخصوص، لكن يبدوا أننا في خضم ذلك لم نعكف على حساب تكاليف سوء الخدمة.

السعي نحو الجودة في مجال الرعاية الصحية ليس مجرد ضرورة أخلاقية وفقط، بل ضرورة مالية أيضًا، فتكاليف سوء الجودة في الرعاية الصحية تتجاوز الأرقام المالية، حيث تؤثر على نتائج المرضى، وروح المعنويات لمقدمي الرعاية الصحية، والرفاهية العامة للمجتمع، وتسلط هذه المقالة الضوء على جوانب تكاليف سوء الجودة في الرعاية الصحية، بما في ذلك تأثيراتها الاقتصادية والإنسانية.

يتمثل أحد أبرز تأثيرات سوء الجودة في الرعاية الصحية، في «العبء الاقتصادي» حيث تسبب الأخطاء الطبية، والمضاعفات القابلة للوقاية، والعمليات غير الفعالة بشكل كبير في زيادة الإنفاق على الرعاية الصحية.

الأخطاء الطبية

ووفقًا للدراسات، فإن الأخطاء الطبية وحدها تكلف مليارات الدولارات سنويًا في الولايات المتحدة، بما في ذلك النفقات المتعلقة بالعلاجات الإضافية، والإقامات الطويلة في المستشفيات، والتسويات القانونية. بالإضافة إلى ذلك، تمتد تأثيرات سوء الجودة إلى تقليل الإنتاجية، حيث يقضي المرضى ومقدمو الرعاية الصحية وقتاً كبيراً في معالجة المشكلات التي كان يمكن تفاديها من خلال إجراءات جودة أفضل.

وبخلاف العبء المالي، يؤثر سوء الجودة في الرعاية الصحية مباشرة على نتائج المرضى وجودتهم في الحياة، حيث يمكن أن تؤدي أخطاء الدواء والتشخيصات الخاطئة والعدوى المكتسبة في بيئات الرعاية الصحية إلى معاناة طويلة المدى، أو إعاقة، أو حتى فقدان الحياة، ويتحمل المرضى وعائلاتهم الضغوط العاطفية وفقدان الثقة في النظام الصحي، عندما تحدث أخطاء قابلة للتجنب. يمكن أن تزداد سوء الحالات المزمنة بسبب إدارة غير كافية أو عدم اتباع التوجيهات، مما يزيد من التكاليف البشرية لسوء الجودة.

بروتوكولات موحدة

وفي اطار ذلك يتحمل مقدمو الرعاية الصحية أيضًا عبء سوء الجودة، من خلال زيادة الضغط والاحتراق الوظيفي وعدم الرضا عن العمل، وبالطبع عندما تكون الأنظمة مليئة بعدم الفعالية أو تفتقر إلى بروتوكولات موحدة، يواجه مقدمو الرعاية صعوبات في تقديم رعاية ذات جوده عالية و يتعرضون باستمرار لضغوطات التعامل مع سير العمل المعقدة، ومعالجة المضاعفات القابلة للتجنب، وإدارة تداعيات سوء الجودة. هذا، بدوره، يسهم في زيادة معدلات التحول، مما يزيد من الضغوط على منظمات الرعاية الصحية ويعرقل استمرارية الرعاية للمرضى.

كما يعرض سوء الجودة في الرعاية الصحية المؤسسات للمسؤوليات القانونية ويضر بسمعتها. حيث يمكن أن تؤدي الادعاءات بالإهمال الطبي، والغرامات التنظيمية، والنشر السلبي الناجم عن حوادث ذات صلة بالجودة إلى تبعات مالية عميقة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن تراجع السمعة يؤثر على ثقة المرضى وولاءهم، مما يؤثر على أحجام المرضى والتنافسية في السوق.

ويجب على منظمات الرعاية الصحية الاستثمار في آليات قوية لضمان الجودة ليس فقط للحد من المخاطر القانونية، ولكن أيضًا لحماية سمعتها ومصداقيتها في المجتمع.

وإليكم بعض التقديرات والإحصائيات التي تسلط الضوء على التأثير المالي لسوء الجودة في الرعاية الصحية:

الأخطاء الطبية: فوفقًا لدراسة نشرت في مجلة السلامة الطبية تساهم الأخطاء الطبية بين 210،000 و 440،000 حالة وفاة سنويًا في الولايات المتحدة وحدها. وهذا يعني أن الأخطاء الطبية هي السبب الثالث في الوفيات، متفوقة على الأمراض التنفسية والحوادث. وتشمل التكاليف الاقتصادية المرتبطة بهذه الأخطاء نفقات الرعاية الطبية الإضافية والتسويات القانونية وفقدان الإنتاجية، مما يعادل مليارات الدولارات سنويًا.

العدوى المكتسبة في المستشفى: وتُعد العدوى المكتسبة في المستشفى (HAIs) مساهمًا كبيرًا في تكاليف الرعاية الصحية على مستوى العالم. تقدر مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها (CDC) في الولايات المتحدة بوجود حوالي 1.7 مليون حالة من العدوى المكتسبة في المستشفى سنويًا، مما يؤدي إلى وفاة نحو 99،000 شخص. وتتراوح التكاليف الطبية المباشرة لعلاج هذه العدوى بين 28 مليار دولار و45 مليار دولار سنويًا.

إعادة الإقامة والمضاعفات: حيث يمثل المرضى الذين يعانون من مضاعفات أو إعادة إقامة نتيجة لرعاية غير كافية أو أخطاء نسبه كبيره من تكاليف لأنظمة الرعاية الصحية. وفي تقارير وكالة بحوث الرعاية الصحية (AHRQ) فان إعادة الإقامة في المستشفى تكلف أكثر من 26 مليار دولار سنويًا.

القضايا القانونية والتكاليف القانونية: في إطار قانون المسئولية الطبية فانه من الممكن أن تكون الشكاوى بالإهمال الطبي والتسويات القانونية الناجمة عن رعاية ذات جودة سيئة مدمرة ماليًا للمؤسسات الصحية. فالتكاليف القانونية، بما في ذلك الرسوم القانونية والتسويات والمصاريف التأمينية، تزيد بشكل كبير من العبء المالي المرتبط بسوء الجودة في الرعاية الصحية.

الهدر وعدم الكفاءة: ان الهدر وعدم الكفاءة تشمل العمليات غير الفعالة، والاختبارات المتكررة، والعلاجات الغير ضرورية، والهدر الإداري تسهم في ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية حيث تبلغ تقديرات تشير إلى أن ما يصل إلى 30% من الإنفاق على الرعاية الصحية في الولايات المتحدة يعود إلى الهدر، مما يمثل مئات المليارات من الدولارات سنويًا.

الإيرادات المفقودة وحصة السوق: فحينما تتعرض المؤسسات الصحية لأخبار سلبية في الإعلام أو تعاني من تأثر السمعة بسبب قضايا الجودة قد تواجه تقليلًا في حجم المرضى وفقدان الإيرادات وانخفاض حصتها في السوق. كما أن إعادة بناء الثقة واستعادة ثقة السوق قد يتطلب استثمارات كبيرة في التسويق وجهود تحسين الجودة.

ولذلك فانه يجب وضع استراتيجيات الوقاية وتحسين الجودة للتعامل مع تكاليف سوء الجودة في الرعاية الصحية، ويجب اتباع نهج استباقي يركز على تحسين الجودة، و ذلك من خلال تنفيذ الممارسات المستندة إلى الأدلة، وتعزيز التواصل والتنسيق بين فرق الرعاية الصحية، واستخدام التكنولوجيا و الأتمتة للحد من الأخطاء، وإعطاء الأولوية لمبادرات سلامة المرضى، مما يمكن اتخاذ خطوات حاسمة، تساعد عمليات المراقبة المستمرة وتحليل البيانات وآليات التغذية الراجعة في تحديد المجالات التي تحتاج إلى تحسين ودفع التغيير المستدام في تقديم الرعاية الصحية.

و فيما يلي بعض الاستراتيجيات التي يمكن اتخاذها:

  1. يجب أن تكون الجودة هدفًا رئيسيًا في ثقافة الرعاية الصحية، حيث يشارك جميع الموظفين في تحقيقها من خلال التدريب المستمر وتشجيع التفكير في التحسين المستمر مما سوف يؤدي الي تعزيز ثقافة الجودة:
  2. تطبيق الممارسات السريرية والإدارية الأفضل والتي تعتمد على الأدلة العلمية، مثل استخدام البروتوكولات القياسية وتوفير التدريب المناسب للموظفين.
  3. يجب على المؤسسات الصحية رصد أداءها بشكل دوري وتقييم جودة الرعاية المقدمة، وذلك من خلال استخدام مؤشرات الأداء والتقارير المستمرة.
  4. يجب على المؤسسات الصحية تحسين التواصل والتنسيق ويساهم التواصل الجيد بين أفراد الفريق الصحي والتنسيق السلس في تقديم الرعاية الفعالة والمنسقة، مما يقلل من احتمالات الأخطاء وتحسين تجربة المرضى.
  5. يجب استخدام التكنولوجيا في تحسين الجودة، مثل نظم إدارة الملفات الطبية الإلكترونية وأنظمة مساعدة في اتخاذ القرارات الإكلينيكية، وأتمتة العمليات الصيدلانية، والذكاء الصناعي في تحليل البيانات الكبيرة لتحديد أنماط الأخطاء وتوجيه الإجراءات التحسينية التصحيحية.
  6. يجب على المؤسسات الصحية تطوير وتطبيق إجراءات سلامة المرضى، مثل تحديد الهويات بشكل صحيح، وتفادي الأخطاء في الصيدلة، ومراقبة العدوى، وتقديم التوعية للمرضى حول الرعاية الصحية الآمنة.
  7. الاستثمار في تطوير المهارات والتدريب المستمر للموظفين في مجالات الجودة وسلامة المرضى، لتعزيز الوعي والمعرفة بأفضل الممارسات.
  8. الاستفادة من دراسات الحالات والتقارير الدولية حول الجودة في الرعاية الصحية لتطبيق الأفكار الناجحة والتجارب الإيجابية في السياق المحلي والإقليمي والدولي.،

فهناك العديد من القصص الناجحة والتجارب العالمية التي تسلط الضوء على كيفية خفض تكلفة سوء الجودة بشكل كبير وتحسين الجودة العامة في الرعاية الصحية وإليكم بعض الأمثلة:

مستشفى سيتي مندلين الدولي (City of Hope International): حيث قامت المستشفى بأنشاء نظامًا شاملاً للأتمتة يشمل العديد من العمليات، مثل إدارة الملفات الطبية الإلكترونية، وإدارة الأدوية والمخزون، وجدولة المواعيد، وتتبع المرضى ونتيجة لذلك تحسنت نتائج المرضى بشكل كبير، حيث تم تقليل عدد الأخطاء الطبية والمضاعفات، مما أدى إلى تقليل التكاليف المرتبطة بالمعالجات الإضافية والرعاية الطويلة الأمد.

مستشفى مايو كلينيك (Mayo Clinic): حيث استخدمت «مايو كلينيك» التكنولوجيا المتقدمة لتحسين جودة الرعاية وتقليل الأخطاء الطبية، مثل استخدام الروبوتات في العمليات الجراحية الدقيقة ونجحت في تقليل نسبة العدوى المكتسبة في المستشفى بشكل كبير، مما أدى إلى تحسين نتائج المرضى وتقليل التكاليف المرتبطة بالعلاجات المضافة.

نظام صحة مينيسوتا (Minnesota Health System): حيث نجح النظام في تطبيق أنظمة متقدمة لإدارة الأدوية وتتبع الجرعات والتوقيتات بدقة عالية وبذلك تم تحسين سلامة المرضى وتقليل حالات الإعادة للإقامة والمضاعفات، مما أدى إلى تقليل التكاليف الطبية الإجمالية للمرضى.

مركز كليفلاند للطب (Cleveland Clinic): اعتمد المركز على أنظمة إلكترونية متطورة لتحسين تدفق العمل وتحسين دقة التشخيصات والعلاجات ونتج عن هذا التحول تحسين كبير في نتائج المرضى وتقليل التكاليف المرتبطة بالأخطاء الطبية.

تُظهر قصص النجاح هذه، كيف يمكن لتبني تطبيق الأنظمة الشاملة للرعاية الصحية أن تلعب دورًا حاسمًا في تقليل تكلفة سوء الجودة وتحسين الجودة الشاملة للرعاية الصحية و تحولت هذه المؤسسات إلى نماذج للتميز في تقديم الرعاية الصحية وتحقيق النتائج الإيجابية للمرضى والمجتمعات التي يخدمونها باعتماد هذه الاستراتيجيات والتزام المؤسسات الصحية بالتحسين المستمر، يمكن تحقيق تحسين ملحوظ في جودة الرعاية وتقليل التكاليف المرتبطة بسوء الجودة في الرعاية الصحية.

ختاماً:

يجب علينا أن نغير أسلوب التفكير عندما نستثمر في الصحة المواطن وأن نضع تكلفة الجودة السيئة في نفس أولويه المردود الاقتصادي، فان تكاليف سوء الجودة في الرعاية الصحية تتجاوز الأرقام المالية، حيث تشمل المعاناة البشرية، ورفاهية مقدمي الرعاية الصحية، ونزاهة المؤسسات.

ومن خلال الاعتراف بتأثيرات سوء الجودة الواسعة وإعطاء الأولوية لجهود تحسين الجودة، يمكن لأنظمة الرعاية الصحية التخفيف من هذه التكاليف والوفاء بالتزامها، تقديم رعاية آمنة وفعالة ومركزة على المريض.

«إن الاستثمار في الجودة ليس مجرد قرار اقتصادي حكيم بل هو التزام أخلاقي أساسي في سبيل تحقيق نتائج صحية أفضل للجميع».

الدكتور شريف كمال

مستشار رئيس الهيئة العامة للرعاية الصحية للشؤون الصيدلية وإدارة الدواء

اترك تعليق