الدكتور ياسر فرغلي يكتب… الذكاء الاصطناعي والدواء «4».. الدراسات السريرية
لقد بدأنا منذ عدة أسابيع في تسليط الضوء على دور الذكاء الاصطناعي في صناعة الأدوية باعتباره اتجاهًا أخذ في الانتشار بسرعة متنامية، حيث استعرضنا دوره في اكتشاف الأدوية وتطويرها وكذلك في الفحص عالي الإنتاجية مما ساهم في تطوير أدوية أفضل وبشكل أسرع، وبالتالي تحسين حياة الملايين من الناس.
اليوم، في هذه المقالة سوف أشارككم التحول الذي يجلبه الذكاء الاصطناعي إلى مجال الدراسات السريرية مما يؤدي إلى نقلة نوعية بحيث قد يكون المفتاح للتغلب على الوضع الراهن في تطوير الأدوية وتمهيد الطريق لنموذج جديد للبحث الطبي المستدام.
البداية…
الأبحاث والدراسات السريرية. إذا قلت إنني متحمس لهذه الأمور فهو تقليل من شأنها، وذلك لأنه أصبح واضحا لي في سنواتي الأولى من دراسة الصيدلة أن الطريقة لإحداث أكبر تأثير في حياة المرضى هي إجراء الأبحاث والدراسات السريرية، وبما أني أعمل بمهنة الصيدلة منذ 30 عامًا في الشركات العالمية المبتكرة للأدوية فقد انبهرت بالدراسات السريرية في وظيفتي خاصة عند التحضير لإطلاق دواء جديد.
أهمية الدراسات السريرية
إن الدراسات السريرية هي شريان الحياة للطب الحديث، حيث تعمل على سد الفجوة بين الاكتشافات العلمية المعملية وتوافر العلاجات المؤثرة والمنقذة لحياة المرضى، حيث توفر الأساس العلمي لاتخاذ القرارات الطبية بناءً على أدلة صارمة، ولكن من المؤسف أن معدل نجاح الدراسات السريرية كمثال في مجال علاج الأورام، ليس قوياً كما قد يأمل المرء.
في الواقع، تشير دراسة أجريت عام 2019 على 7455 دراسة في علاج الأورام في الفترة من عام 2000 إلى عام 2015 إلى تقدير أن 3.4% فقط من أدوية علاج الأورام التي تدخل المرحلة الأولى من الدراسات السريرية تحصل في النهاية على موافقة إدارة الغذاء والدواء الأمريكية.
يمكن أن تعزى العديد من هذه الإخفاقات إلى عقبات مثل سوء تصميم الدراسات أو اختيار المرضى غير الفعّال، أو نتيجة لعدم وجود مؤشرات حيوية «Biomarkers» يمكن قياسها.
وللحصول على موافقة الهيئات الصحية على علاج أو دواء جديد وطرحه في الأسواق، يجب أن يخضع لاختبارات صارمة في الدراسات السريرية لضمان سلامته وفعاليته.
ونظرًا لأن الدراسات السريرية ضرورية للتقدم الطبي، فمن المهم إجراؤها بشكل أخلاقي، مع احترام حقوق المرضي المشاركين وخصوصيتهم حيث تؤثر نتائج الدراسات السريرية على المبادئ التوجيهية الطبية، وتؤثر على سياسات الرعاية الصحية، وفي النهاية تشكل طريقة تقديم الرعاية الصحية للمرضى.
تحديات الدراسات السريرية
تواجه الدراسات السريرية تحديات مختلفة وكثيرة ومن أهمها صعوبة استقطاب عدد كاف من المرضي خلال فترة زمنية في بداية الدراسة وفي نفس الوقت ارتفاع معدلات انقطاع وعدم استمرار المشاركين بسبب عوامل مختلفة، مثل الآثار الجانبية أو الأسباب الشخصية أو التغيرات الصحية بالإضافة لعدم وجود تنوع في المجموعات السكانية المشاركة من المرضي (السن/الجنس/الأمراض) في التجارب السريرية، مما يؤدي إلى تحديات في تعميم النتائج.
إن إدارة وتنسيق الدراسات في مواقع متعددة، في بلد واحدة أو عدة بلدان تمثل تحديًا كبيرًا من ناحية جمع البيانات ورصدها، والالتزام بالبروتوكولات وخاصة من ناحية دمج التقنيات الجديدة، مثل السجلات الصحية الإلكترونية مع ضمان أمن البيانات وخصوصيتها مما يجعل إجراء الدراسات السريرية أمرًا مكلفاً جدًا.
كما أن في حالات الطوارئ الصحية العالمية مثل جائحة كوفيد-19 تأثير كبير على الدراسات السريرية في جميع أنحاء العالم وخاصة عند إغلاق موقع الدراسة أو تقييد الوصول إليه.
قد يكون إجراء دراسة سريرية عملية صعبة في أفضل الأوقات، ولكن مستوى التعقيد يمكن أن يكون أعلى عندما يتعلق الأمر بأبحاث الأمراض النادرة «Rare Diseases» .
فهل هناك طرق يمكن أن تؤدي إلى نقلة نوعية في الدراسات السريرية نحو الأفضل؟ وهل يمكن للتكنولوجيا أن تساعد في التغلب على بعض التحديات؟.
مساهمة الذكاء الاصطناعي في الدراسات السريرية
لقد أصبح الذكاء الاصطناعي منتشرًا بشكل متزايد في قطاع الرعاية الصحية، حيث حمل الذكاء الاصطناعي (AI) وعدًا كبيرًا في إحداث ثورة في مختلف جوانب الدراسات السريرية، بتقديمه فوائد محتملة من حيث الكفاءة، وفعالية التكلفة، وتحسين النتائج واختصار الوقت وتقليل فريق العمل.
فيمكن لخوارزميات الذكاء الاصطناعي تحليل عددًا لا نهائيًا من السجلات الصحية الإلكترونية «Patients Electronic Health Records» وتحديد المرضى المؤهلين بسرعة، وتبسيط عملية اشتراكهم في الدراسة.
كما يمكن أن يساعد في تحديد مجموعات فرعية من المرضى «Patients Stratifications» الذين من المرجح أن يستجيبوا لعلاج معين، مما يتيح تصميمات تجارب أكثر تخصيصًا واستهدافًا، بالإضافة إلي تحليل الدراسات السابقة للتنبؤ بمعدلات اشتراك المرضى، والتحديات المحتملة، والتصميم الأمثل للدراسات، مما يساعد في تخطيط الدراسات المستقبلية وتنفيذها.
يستطيع الذكاء الاصطناعي التواصل مع التطبيقات الصحية المفعلة على الأجهزة الذكية المحمولة مثل الساعات والهواتف المحمولة وتحليل بياناتها بسرعة كبيرة ودقة، مما يوفر رؤية جيدة حول سلوك المريض ونتائج العلاج في الوقت الفعلي خارج بيئة الدراسات الخاضعة للرقابة.
كما يمكنه تحليل كميات هائلة من البيانات الطبية الحيوية والصور مما يعزز جودة البيانات من خلال ميكنة مراقبة بيانات الدراسات واستخلاص معلومات قيمة من الملاحظات والمستندات السريرية غير المنظمة بحثًا عن الأخطاء والتناقضات، مما يقلل من مخاطر أخطاء إدخال البيانات ويضمن سلامتها.
يمكن أن يساعد الذكاء الاصطناعي في ضمان الامتثال لمتطلبات الهيئات الصحية من خلال ميكنة عمليات ادخال البيانات والتوثيق والمساعدة في إنشاء ملفات التسجيل الدوائي، كما يمكنه تحديد حالات التلاعب والأنماط التي تشير إلى الأنشطة الاحتيالية، مما يعزز سلامة بيانات الدراسات السريرية.
الخلاصة…
إن مستقبل استخدام الذكاء الاصطناعي في الدراسات السريرية واعدًا جدًا، ففي حين أن أجهزة الذكاء الاصطناعي الشخصية قد تكلف ما يزيد عن 10 آلاف إلى 4 ملايين دولار لبناء أنظمة معقدة، إلا أنه لا تزال هناك تكلفة بسيطة لاستخدام الخيارات مفتوحة المصدر التي يمكن أن تعطي نتائج أكثر كفاءة وفعالية من حيث التكلفة.
ولا تزال هناك مخاوف تتعلق بخصوصية البيانات، وموافقة الهيئات الصحية، ودمج الذكاء الاصطناعي في سير عمل الدراسات السريرية الحالية، ولكن الأمل الجديد هو أن يصبح تفسير بيانات الدراسات السريرية بطريقة أسرع وأكثر كفاءة وموثوقية بمساعدة التقدم التكنولوجي.
إن التقدم في رعاية المرضى سيفتح أبوابًا جديدة للطب الشخصي وسيسمح بالشمولية والشفافية للمرضى من جميع الخلفيات والاحتياجات الطبية للمشاركة في الدراسات السريرية وليس المقصود من الذكاء الاصطناعي أن يحل محل المتخصصين في الدراسات السريرية، بل أن يكون مكملاً للعمل الذي يتم القيام به لدعم تطوير المنتجات الطبية الرائدة، والتي سيكون لها تأثير إيجابي على حياة عددًا لا يحصى من البشر.
وللحديث بقية..
الدكتور ياسر فرغلي، رئيس تنفيذي سابق ومدير عام لشركات دولية ومحلية، تمتد خبرته لأكثر من ثلاثون عامًا في منطقة الشرق الأوسط في مجالات التسويق والمبيعات وإدارة الشركات، حاصل على بكالوريوس صيدلة من جامعة الاسكندرية وشهادة في التسويق من المعهد الأوربي لإدارة الأعمال بفرنسا، «INSEAD»، كما أنه محاضر في كلية الأعمال بالجامعة الأمريكية بالقاهرة .
للتواصل مع الكاتب: yfarghal@yahoo.com