سوق الدواء
كل ما تريد معرفته عن سوق الدواء

د. إسلام عنان يكتب.. ليه كان لازم نقضي على فيروس سي؟.. «مبني على أحداث حقيقية»

«حاول تدخل كلية تقدر تسافر بسهوله بعدها للخليج او أوروبا!»، يقول لي عادل أن هذه الجملة ترددت كثيراً في ذهنه بعد ظهور نتيجة الثانوية العامة وحصوله على درجات تجعله يختار أي كلية من كليات ما يطلق عليها «القمة»، ولكن هذه الجملة التي قالها له خاله سمير الذي يعمل طبيباً في إنجلترا وأيّدها تقريباً كل أصدقائه وعائلته جعلته يتردد في دخول كلية الفنون وأن يضحي بحبه للرسم «اللي ملوش مستقبل» على حد تعبير خاله وأن يختار كلية الصيدلة وأمره لله.

ويبدو أنه لم يكن اختياراً سيئاً عموماً فعادل كان من أشطر أفراد الشلة ووجد شغف جديد بالكيمياء بأنواعها المختلفة ولم يترك الرسم ولكن طبعاً على استحياء لأن من يعرف صيدلة يعلم أنها قاتلة للمواهب الا فيما ندر ممن يقدرون على الحفاظ على مواهبهم في ظل الاختبارات التي لا تنتهي والمعامل التي قد تستمر 8 ساعات. لذلك انحسرت موهبة عادل على بورتريه لكل واحد من أفراد الشلة وتقريباً كل طاقم التدريس بالجامعة اللي طبعاً رسمهم اثناء المحاضرات.

تخرج عادل بتفوق سنة 1999 واقترب حلمه من التحقق حتى أنه احتفل تلك السنة برأس السنة معنا لأول مرة ويظل حتى يومنا هذا يتذكر كلما نلتقي حفلة الالفية الثانية «جون ميشيل جار» التي حضرها معنا عند سفح الهرم.

… «بص يا عادل مشوار السفر محتاج طريق من اثنين، يأما تتعين في الجامعة بعد كده تسافر كمبتعث وده صعب عشان انت عارف ليه طبعاً او العمل في شركة دواء عالمية لمده سنتين تلاته بعد كده تسافر زي مانت عايز سواء لفرع الشركة بره أو أي شركة تانية وانت شكلك كويس وبتتكلم انجليزي بطلاقة وهيخطفوك متقلقش».. ده كان كلام حد من الشلة لعادل وكما المتوقع اختار عادل الاختيار الثاني وبعد التقديم وسلسلة تكاد لا تنتهي من المقابلات لمدة ستة أشهر، تم قبوله في احدى الشركات الأمريكية.

كان يوجد مجتهدين في الشركة ثم يوجد عادل… الموظف المثالي سنتين على التوالي مع ترقية مبكرة وحوافز قياسية جعلته أقرب لحلمه الذي لم ينساه وخصوصاً بعد التعرف على هالة زميلته والتي فاتحها برغبته في التقدم لطلب يدها.

بعد قراءة الفاتحة والاتفاق بين الأهل بعد مداولات كثيرة على ضغط النفقات وعمل فرح عائلي بسيط، يحكي لي عادل كيف عانى لاقناع أهل هالة على عدم ضرورة شراء شقة بمصر في الوقت الحالي نظراً لتخطيطه للسفر وبدأ حياتهم في بلد آخر.

قام عادل بالتقديم على وظيفة ممثل طبي لشركة بالخليج ثم شركة أخرى فأخرى… الرسالة التي تلقاها عادل بتحديد موعد للاختبار المبدئي لعمل مقابلة في احدى اكبر شركات الدواء بالخليج كانت كما يقول عادل «أول خطوة حقيقية لمستقبله» كان انتصار صغير لعادل وهالة يستحق الاحتفال… «هما هيلاقو أحسن منك فين» كانت كلمات هالة لعادل مشجعة وليست بعيدة عن الحقيقة… بعد الاختبار كان ميعاد المقابلة الأولى وبعدها بشهر المقابلة الثانية وابدى الكل اعجابهم بأداء عادل، ولذلك لم يكن مستغرب ان يصله ايميل انه تم اختياره بالفعل وان موظف الموارد البشرية سيقوم بتوجيهه للخطوات المطلوبة للسفر.

كانت هذه خطوة تدعو للاحتفال ويقول لي عادل ونحن في احدى مؤتمرات الدواء التي لا تنتهي «عارف، من كتر ما حاسس ان الدنيا قربت وانا وهالة هنتجوز ونسافر، مشوار مجمع التحرير عشان الورق والباسبور بقا عامل زي مشوار الباراديز في العجمي والطوابير كأني واقف على باب اب ستيرز بليل». وقال لي انهم حددوا ميعاد الخطوبة وان يكون عقد القران مباشرة قبل سفره. كان يتبقى خطوة الفحص الطبي لإصدار التأشيرة وتم تحديد الموعد وبعد مشوار من مشاوير الباراديز على رأيه استلم التقرير الطبي وكانت بداية ان تتغير حياته للأبد!

كان التقرير يشير الى إيجابية العينة لفيروس سي وبالتالي هو حامل لهذا المرض الذي يظل صامتاً حتى يتم اكتشافه بالصدفة في اغلب الأوقات. كانت الصدمة شديدة لمعرفته ان العلاج سيتطلب وقتاً ومال وخصوصا ان نسبة نجاح الادوية كانت في حدود ال50% وكثيراً ما يعود مرة ثانية بعد الشفاء ولكن الصدمة لا تقارن بكلمات مسئول الصحة لما قاله «انسى يقا موضوع السفر ده نهائي حتى لو خفيت، البلد اللي انت رايحها مبيقبلوش ولا مرضى ولا متعافين من فيروس سي!»

“عارف الدومينو لما تقع واحدة ورا التانية السفر وقع وراه الكايير وقع وراه المرتب وقع وراه حتى هالة اللي مقدرتش تبرر أي حل بديل لعيلتها ووقع حتى كلام خالي اللي كان السبب في كل رصة الدومينو دي!».

تفرقت السبل بيني وبين عادل واتجه للعمل في صناعة الدواء واتجهت للعمل في مجال الأبحاث الصيدلانية واشتغلت على أبحاث كثيرة عن فيروس سي وعرفت ان فيه زي عادل للأسف مئات الالاف الذين يكتشفون فقط عند السفر وذلك ان 80% من المصابين بالفيروس بلا تشخيص و90% من هذه النسبة بلا علاج.

وهو وضع يجب إلا يستمر وخصوصاً 70% من المصابين بالفيروس سوف يصبحون مرضى التهاب الكبد الوبائي المزمن سي مما يجعلهم عرضة لتليف الكبد للأسف واحتمال كبير سرطان الكبد بعد ذلك. وهو من السرطانات الأشد شراسة ومن اعلى أسباب الوفاة في مصر من بين كل أنواع السرطانات.

ومعظم مرضى سرطان الكبد هم مرضى سابقين لفيروس سي. في سنة 2008 ، تم تقدير الحاملين لفيروس سي ب10% من البالغين في مما جعلها البلد رقم واحد في اعداد المصابين وكان الاعتماد على دواء الانترفيرون بنسبة الشفاء القليلة والتكلفة التي قد تصل الى 150 الف جنيه آن ذاك ان لم يقدر ان يأخذ الدواء من التأمين سواء الحكومي او الخاص وضف على ذلك كم الحقن المطلوب ان يأخذها المريض مع الاثار الجانبية التي كانت كما يصف عادل «كنت بحس ان علطول تعبان وعايز انام ووشي مخطوف وباهت ومش قادر اشتغل».

عام 2018 كانت التجربة الثانية لمصر للقضاء على فيروس سي ولكن هذه المرة يجب ان يكون هناك حل جزري التي لا تؤثر سلباً فقط صحياً ولكن ايضاً اقتصادياُ واجتماعياَ.

اطلق الرئيس السيسي رئيس الجمهورية حملة 100 مليون صحة بفكرة وطريقة تنفيذ طموحة ان يتم مسح كل البالغين في مصر لفحصهم وعلاجهم بالمجان «احنا هنا بنتكلم عن 60 مليون مواطن ولو عرفنا نعمل الحملة هتبقى اكبر حملة فحص لفيروس سي في العالم».

طبعا لتنفيذ خطة بهذا الطموح وخصوصاً ان بلاد كثيرة فشلت في ذلك مسبقاً ان يتم تقدير الموارد المالية بدقة مع محاولة تخفيض تكاليف العلاج وهو ما نجحت الدولة في تحقيقه بالحصول على دواء السوفالدي بارخص سعر في العالم ثم تصنيعه محلياً لتنخفض قيمة العلاج الدوائي من 150 الف الى 3 الاف جنيه مصري وهو سعر لا يوجد في أي دولة بالعالم مما خلق فرصة للسياحة العلاجية فيمصر.

فحالياً يصل مصر مرضى فيروس سي من افريقيا والبلاد العربية وأوروبا نظراً لغلاء الدواء في هذه البلاد او عدم وجوده في التغطية التأمينية مثل إنجلترا على سبيل المثال. أيضاً نفس الشيء تم في الكواشف الطبية وأدوات الفحص سواء كمنح من المؤسسات الدولية او شركات الأجهزة الطبية والأدوية.

من ركائز نجاح الحملة هي الموارد البشرية واللي في رأيي تأتي قبل الموارد المالية في الأهمية وكان لهم دور في التوزيع الجغرافي والفحص المبدئي ورصد الحالات وكتابتها. «مهما كانت الحالة او تأمينه وحتى لو مشفتوش عالسيستم هنعمل الفحص الأول بعد كده نظبت ورقه» دي كانت جملة مسئول الحملة لما سألته ماذا لو لم تجد الشخص على قوائم البرنامج وهو مسئول من ضمن 150 مكتب اداري للحملة في الجمهورية.

للوصول لهذا العدد في 27 محافظة مصرية كان لابد من وجود نظام الكتروني قوي للرصد والتتبع والعلاج وهذا ما تم صنعه بنظام الكتروني مصري بالكامل يربط الرعاية الأولية التي تم الاعتماد عليها كركيزة أولى لفحص 60 مليون مصري نظرا لوجودها في كل محافظات مصر ثم الإحالة الى الرعاية الثانوية. وتم وضع البرنامج وتفعيل الفحص الاولي في كل مستشفيات وزارة الصحة والتأمين الصحي والجيش والشرطة والمستشفيات الجامعية وقطاعات أخرى ومنها ايضاً القطاع الخاص.

في نهاية 2021 تم اعلان ان تقريباٌ 55 مليون مصري تم فحصهم وتم تحديد مليوني ومئتين الف مقيم او مواطن مصري حامل للفيروس تم علاج مليون ونص تقريباً بالمجان ووصول 98% منهم للشفاء التام.

ماذا لو لم يتم اطلاق حملة 100 مليون صحة. كان سيظل هناك مليون ونص مصري تقريباً غير مدركين بإصابتهم مما يساهم في نشر العدوى وكانت ستكرر حكاية عادل مليون مرة. ان حملة فيروس سي هي واحدة من انجح حملات الصحة العامة في التاريخ فلم يسبق ان تم فحص كل هذا العدد بالموارد المتاحة آن ذاك ولم تنجح دولة في القضاء على فيروس سي من قبل.

اذا لم نطلق حملة القضاء على فيروس سي كان العبء الصحي سيزيد بسبب تليف الكبد وعمليات الزراعة المكلفة للمريض والمتبرع وأيضا حالات سرطان الكبد التي انتشرت في مصر بسبب فيروس سي، لذلك قدّر ان الحملة حفظت للمصريين اجمالي مليون سنة حياة لكل من تم شفائه وكانت ستفقد لو لم يتم اكتشافه وعلاجه مبكراً سواء بالسرطان أو التليف.

وأيضاً كان العبء الاقتصادي سيكون في تزايد فلقد قدر ان حملة 100 مليون صحة وفرت 23 مليار جنيه عبء اقتصادي كانت مصر ستتحمله لو لم نطلق الحملة سواء بسبب الخسارة الإنتاجية للمرضى بسبب عدم العمل او الوفاة او سواء بسبب تكاليف العلاج المكلف للسرطان او الزراعة او التليف. لذلك ان كل جنيه تم صرفه في حملة فيروس كان له مردود استثماري اثنين ونص جنيه تقريباً.

مما يجعل الحملة ناجحة صحياً واجتماعياً وايضاً اقتصاديا مما جعل منظمة الصحة العالمية تمنح مصر المستوى الذهبي على مسار القضاء على فيروس سي باعتبارها أول دولة عالمياً في طريقها للتخلص من فيروس سي نهائياً.

ان مبدأ الفحص المبكر وحملات الصحة العامة هي من منهج الصحة حالياً للوصول لمركزية صحة المواطن في 2030 بمعنى ان لا نحاول فقط علاج المرضى ولكن نحاول ان نجنب المقيم بمصر ان يصبح مريضاً وان يتمتع بصحة جيدة بعيداَ عن الأمراض وهو ما بات واضحاً في الاهتمام بالمبادرات الرئاسية للصحة العامة التي تشرف عليها وزارة الصحة المصرية التي وصلت ل17 مبادرة تقريباً، تهتم برحلة الحياة الكاملة للمقيمين في مصر من أول فحص المقبلين على الزواج الى صحة الأم والجنين وفحص الاجنة للأمراض الجينية ثم مبادرة اول 1000 يوم ذهبية في حياة الطفل ثم مبادرة السمع مروراً بالصحة المدرسية من كشف للأنيميا والسمنة وقصر القامة الى الامراض المزمنة والسرطانية ومبادرات أخرى كثيرة كان لها مردود اكلينيكي واجتماعي وايضاً اقتصادي.

ان نجاح مبادرات الكشف المبكر والفحص تجعلنا نطمح في ان ننتهج اكثر زياده الموارد المالية لها والطب الوقائي الذي يلعب دور محوري في صحة مصر، حيث قدرت منظمة الصحة ان كل دولار يتم صرفه على الطب الوقائي يوفر 7 دولار من الطب العلاجي وهو ما شهدناه في مصر من القضاء على شلل الأطفال والحصبة والحصبة الألمانية ودورهم اثناء جائحة كوفيد وما تقوم به حالياً في الحجر الصحي.

بعد اكثر من عشرين سنة من اكتشاف عادل لاصابته بفيروس سي نجلس سوياً أيضاً في احدى مؤتمرات الدواء بصفته احدى مصنعي الدواء في مصر هذه المرة «عارف، رب ضارة نافعة،  صحيح ان حسيت ان الدنيا انتهت لما اكتشفت موضوع فيروس سي بس سبحان الله ادي السنين عدت وبدل ما كنت عايز اسافر، انا دلوقتي عندي مصنع دواء في مصر ومصنع في نفس البلد اللي كنت عايز اسافرها وبالعكس تخيل بقا لو كنت سافرت وسبت الرسم» ده كان كلام عادل ليا وعلى فكره هو مسافر لعرض لوحاته في المانيا زي كل سنة واللي اللوحة تقريباً بتتباع بمرتب سنة من مرتبه أيام حلم السفر.

الدكتور  إسلام عنان

الرئيس التنفيذي لشركة أكسيت للأبحاث

ومحاضر السياسة الصحية والاقتصاد الصحي (كلية الصيدلة – جامعة المستقبل ومصر الدولية)

 

اترك تعليق