الدكتور ياسر فرغلي يكتب… تطبيقات شركات الدواء العالمية للذكاء الاصطناعي في مستقبل اليقظة الدوائية
الذكاء الاصطناعي والدواء «9»
في المقال السابق تطرقنا في الحديث عن استكشافات الذكاء الاصطناعي في اليقظة الدوائية والإمكانيات المتعددة التي من الممكن ان يضيفها في هذا المجال الهام، واليوم نستكمل بسرد بعض النماذج من تجارب الشركات العالمية وتطبيقها للذكاء الاصطناعي عمليا في مجال اليقظة الدوائية.
الشراكة مع المرضى من أجل السلامة
عندما تتم الموافقة على استخدام أي دواء وإطلاقه في السوق العالمي و المحلي ومن خلال العمل مع الآلاف من الخبراء حول العالم تقوم الشركات بتحليل وإبلاغ فوائد ومخاطر الدواء وأيضا يلعب المرضى دورًا مهمًا في الإبلاغ عن الآثار الجانبية.
فعندما يتناول مريض دواء ما ويكون له أثر جانبي غير متوقع – بدءًا من المشكلات البسيطة مثل سيلان الأنف إلى المشكلات الأكثر خطورة التي تتطلب دخول المستشفى – يتعين على شركات الأدوية قانونًا الإبلاغ عن هذه المعلومات المعروفة بأسم حدث ضار إلى الهيئات التنظيمية.
في صناعة الأدوية، يعد الإبلاغ عن الأثر الجانبي للدواء جزءًا مهمًا ويستغرق وقتًا طويلاً لضمان الاستخدام الآمن والفعال للأدوية من قبل المرضى. يقوم موظفو اليقظة الدوائية بمعالجة عدد متزايد من الحالات من مصادر متنوعة مثل حسابات وسائل التواصل الاجتماعي للمرضى إلى تقارير الاطباء المشرفين على الدراسات السريرية.
جائحة كوفيد-19 وسرعة جاهزية فايزر للتعامل مع وضع عالمي مفاجئ
تضمن اليقظة الدوائية في شركة فايزر الاستخدام الآمن والمناسب للمنتجات الموجودة في محفظتها من خلال جمع أحداث السلامة وتحليلها والإبلاغ عنها. مع زيادة عدد الادوية وتطور التكنولوجيا، يتزايد حجم تقارير الحالة الطبية.
ولتلبية هذا الطلب، أطلقت شركة فايزر مبادرة تركز على استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لأتمتة (استخدام البرمجيات والكمبيوتر والروبوتات لإتمام سير العمل المتكرر التي يقوم بها البشر) أنشطة معالجة حالات السلامة مع الحفاظ على أعلى مستويات الجودة والامتثال التنظيمي.
قام فريق اليقظة الدوائية التابع لشركة فايزر بمعالجة ما يقرب من 1.4 مليون أثر جانبي على مستوى العالم في عام 2019 وحده. وبالتطلع إلى المستقبل عبر الصناعة، من المتوقع أن يزيد النمو في الابلاغ بنسبة 20% سنويًا.
بينما كان العديد من العلماء في شركة فايزر يعملون على تطوير وتصنيع لقاح لكوفيد-19، كان أحد فرق الشركة يعمل بجد لمراقبة سلامة تجربة لقاح كوفيد-19. وقد فعلوا ذلك مع الحفاظ أيضًا على عمليات مراقبة السلامة لأكثر من 1000 منتج آخر في محفظة الشركة حيث أن اللقاح الجديد قد تم ترخيصه وإتاحته للناس في جميع أنحاء العالم، فإن المراقبة في الوقت الحقيقي «real time» ستكون بالغة الأهمية. وستكون التكنولوجيا – وخاصة الذكاء الاصطناعي – أداة حاسمة في معالجة كميات كبيرة من المعلومات على مدار 24 ساعة يوميا لتحليلها من قبل الشركة.
ولحسن الحظ، فقد تم وضع الأساس لهذه التكنولوجيا قبل سنوات، مما أتاح اتخاذ إجراءات وإستجابة سريعة. لقد تم تطوير التكنولوجيا من أجل تلبية متطلبات الوباء لان العمل الأساسي بالغ الأهمية حقًا لأنه سمح بالتعامل مع حجم إضافي كبير من الحالات، وساعد في الوقت نفسه الشركة على البقاء ملتزمة بالمعايير التنظيمية ومواصلة مراقبة ملفات السلامة الخاصة بلقاحاتها وأدويتها الأخرى.
منذ عام 2014، كانت الشركة رائدة في استخدام الذكاء الاصطناعي في التيقظ الدوائي ومراقبة السلامة للمساعدة في فرز وتصنيف “تقارير الحالة” التي يقدمها الأشخاص عندما يواجهون «حدث ضار»، والذي يمكن أن يكون جانبًا غير متوقع.
ونظرًا لأن التكنولوجيا تعمل على أتمتة المهام المتكررة، فيمكنها جمع وتحليل كميات غير محدودة من البيانات وتقديمها إلى خبراء مدربين لعرضها والتصرف بناءً عليها.
إن الاستفادة من التكنولوجيا لأتمتة هذا النوع من العمل المتكرر يحرر العلماء وأعضاء الفريق الآخرين حتى يتمكنوا من تركيز انتباههم على مهام أكثر تعقيدًا و لكنها أيضا تتمحور حول المرضى.
لذا، توصل الموظفون في منظمة السلامة بشركة فايزر إلى حلول إبداعية. بدأ من التفكير خارج الصندوق حيث كان التساؤل كيف يمكن تبسيط العمليات لتكون أكثر كفاءة؟ كيف يمكننا تقديم تكنولوجيا جديدة؟
والمثال علي ذلك هو بوابة الإبلاغ عن الأحداث السلبية عبر الإنترنت والتي تسمي كوفايس «COVAES»، والتي كانت متاحة بلغات متعددة، 24 ساعة في اليوم 7 أيام في الأسبوع للمرضى للإبلاغ مباشرة عن تجاربهم مع اللقاح. يمكن الوصول إلى «COVAES» من خلال موقع www.pfizersafetyreporting.com، وهو يطرح أسئلة مخصصة للفرد حول تجربته المرتبطة باللقاح بهدف جمع معلومات كاملة وذات صلة من الأشخاص الذين يتلقون اللقاح.
يمكن لأولئك الذين لا يرغبون في استخدام البوابة عمل دردشة إلكترونية مع العميل ليو «Agent LEO»، وهو أحد حلول الذكاء الاصطناعي التي تجمع المعلومات من المحادثات الصوتية الآلية. بالإضافة إلى ذلك، صمم الفريق روبوتًا لأتمتة عملية تنزيل وفرز وإدخال البيانات لتقارير الأحداث السلبية المقدمة لدى وكالة الأدوية الأوروبية. وقد وفر حل تكنولوجي آخر أثناء مراجعة المجلات الطبية للتقارير المحتملة عن الأحداث السلبية المتعلقة بمنتجات فايزر.
من خلال أتمتة هذه المهام، فقد وفرت هذه التكنولوجيا ساعات لا حصر لها حيث انها أشياء يجب القيام بها، لكنها متكررة وبمساعدة الذكاء الاصطناعي ساعد على تقليل وقت دورة معالجة الحالة وإدارة حجم أكبر بكثير من التقارير.
إن الإدارة الفعالة للحجم الكبير من التقارير تمكن العلماء والمهنيين العاملين في مجال السلامة من الوصول إلى هذه البيانات في الوقت المناسب حتى يتمكنوا من إيصال أي رسائل مهمة إلى المرضى والأطباء والهيئات الصحية.
البناء للمستقبل
أصبح الذكاء الاصطناعي أكثر اندماجًا في حياة الناس اليومية وكذلك في الطريقة التي تعمل بها الشركات في كل المجالات، بما في ذلك الرعاية الصحية، وعلى وجه الخصوص، عمليات سلامة الأدوية واللقاحات. على سبيل المثال، تعمل شركة فايزر مع شركة بيانات وتحليلات في الولايات المتحدة تقوم بجمع بيانات صحية مجهولة المصدر ومجهولة الهوية وآمنة «anonymized, de-identified, and secure» من السجلات الطبية الإلكترونية لنحو 80 مليون شخص في الوقت الفعلي تقريبًا.
ومن خلال الوصول إلى هذا الحجم من المعلومات، يمكن للشركة استخلاص الأفكار ومراقبة سلامة المرضى بشكل جماعي، ففي الماضي، ربما كان التحليل على هذا النطاق يستغرق سنوات أما الآن وفي وجود التكنولوجيا فلديها القدرة على استخلاص الأفكار والتصرف بناءً عليها خلال أشهر، أو حتى أسابيع.
باير الالمانية والشراكة مع شركة خدمات تكنولوجية عملاقة
تتطلع شركة باير إلى تسريع مراقبة بيانات سلامة المرضى باستخدام الذكاء الاصطناعي في خطوة تأمل أن تسمح باكتشاف أي آثار جانبية محتملة مرتبطة بالأدوية في وقت أبكر بكثير. وقد تعاونت شركة الأدوية الألمانية مع شركة الخدمات التكنولوجية جينباكت «Genpact» في هذا العمل، حيث وقعت اتفاقية متعددة السنوات لمنتجات الذكاء الاصطناعي للتيقظ الدوائي (تطبيق PVAI) حيث سيتم إضافتها إلى قاعدة بيانات اليقظة الدوائية الحالية وأنظمة تكنولوجيا المعلومات الخاصة بشركة باير لتوفر لهم قدراته المبتكرة في مجال تطبيق تقنيات الذكاء الاصطناعي المتقدمة والتعلم الآلي وذلك لرفع كفاءة التيقظ الدوائي ومعالجة الحالات، مع الحفاظ على معايير الجودة والامتثال العالية لدي باير.
إن تطبيق «PVAI» الذي يستخرج بيانات الأحداث السلبية من المستندات بطريقة آلية، قد شارك وفاز في عدد من التجارب التنافسية لإثبات المفهوم (proof of concept) التي تديرها شركات الأدوية الكبرى. يتمتع تطبيق «PVAI» من «Genpact»، والذي يشتمل على برنامج «Genpact Cora PharmacoVigilance»، بالقدرة على تحديد وتحليل بيانات سلامة المرضى من خلال تسهيل الكشف بشكل أسرع عن الاتجاهات ضمن كميات كبيرة من البيانات. ونتيجة لذلك، فإن PVAI لديه القدرة على الكشف عن آثار جانبية جديدة مرتبطة بالأدوية في وقت مبكر، وبالتالي يمكن أن يحسن قدرة شركات الأدوية على ضمان سلامة المرضى بشكل أفضل.
بوهرينجر إنجلهايم الألمانية تبتكر بنفسها التطبيق
قام فريق من خبراء تكنولوجيا المعلومات الخاص بالشركة الألمانية بوهرينجر إنجلهايم بإبتكار تطبيق «BRASS, Benefits-Risk Analytic System» أو ما يعرف بنظام تحليل الفوائد والمخاطر وهو نظام يمكنه مساعدة الشركة على فهم كيفية عمل الأمراض والأمراض المصاحبة والآثار الفعالة والآثار الجانبية للأدوية، بالإضافة إلى كيفية تأثير الأحداث الطبية على بعضها البعض. والطموح هو ضمان حصول كل مريض على خيار العلاج الأفضل والأكثر أمانًا له، كما يساعد التقييم القوي والسريع للفوائد والمخاطر في الحصول على العلاجات المناسبة للمرضى بشكل أسرع. والتقدير واجب لبوهرينجر لأن هذه التكنولوجيا لم تأت من شركة برمجيات ناشئة ولكن في الواقع تم بناؤها والتحقق من صحتها من قبل إحدى شركات الأدوية الرائدة في العالم – مما يوفر قدرة فريدة وقيمة كبيرة ويستفيد من الأتمتة والذكاء الاصطناعي لتوحيد بيانات سلامة المرضى، ويكشف الأسباب المحتملة لحدوث الأشياء، ويسمح بعمل نموذج للتأثير المحتمل «modelling».
وقد أعلنت شركة أريس جلوبال «ArisGlobal»، الشركة الرائدة في السوق العالمية في مجال حلول سلامة الأدوية في جميع أنحاء العالم، وشركة بوهرينجر إنجلهايم في مايو ٢٠٢٢، عن الاستحواذ على الابتكار الرقمي «BRASS» من قبل «ArisGlobal»، حيث سيتم دمج التطبيق في منصة تكنولوجيا «ArisGlobal»، والتي تعرف بإسم «LifeSphere®»، و سيطلق عليه «LifeSphere Clarity»، وسيلعب دورًا رئيسيًا في دفع التقدم على مستوى الصناعة في مجال التيقظ الدوائي وسلامة المرضى.
وبمجرد دمجها في منصة «LifeSphere»، سيتم تزويد المشتركين باتصالات قيمة والحصول على رؤى أعمق وأسرع حيث سيمنح المستخدم المتخصص في اليقظة الدوائية داخل شركة الأدوية القدرة على إنشاء تحليل طبي أكثر كفاءة للمخاطر والمنافع. يمثل هذا الابتكار الرقمي تقدمًا مؤثرًا على مستوى صناعة الدواء، حيث أنه يفتح الفرصة للعديد من المؤسسات الصحية لتطوير تحليلاتها ورؤيها المتعلقة بالتيقظ الدوائي.
وختاما…
مع الزيادة الحالية في تقارير الاثار الجانبية والعبء المفرط الواقع على فرق اليقظة الدوائية، من الضروري معالجة الثغرات في النظام، وصياغة حلول لمكافحة أوجه القصور هذه، حيث يعد بطء تطوير تقارير سلامة الحالات الفردية ومعالجة كميات كبيرة من البيانات مساهمًا رئيسيًا في ركود التقدم التكنولوجي في اليقظة الدوائية. ومن الواضح أن نظام اليقظة الدوائية الأمثل يجب ان يكون مصمما لحماية الأشخاص والمرضى من الأذى المفرط، ولديه القدرة على التنبؤ بالاتجاهات، وإجراء تحليلات مناسبة للمخاطر والفوائد، وتوليد بيانات مفيدة لفرق اليقظة الدوائية.
إن الذكاء الاصطناعي لديه القدرة على تطوير اليقظة الدوائية من خلال تحليل ومعالجة كميات كبيرة من البيانات التي عادة ما تكون خارج نطاق حياة الإنسان. ويتم ذلك من خلال أساليب ونماذج مختلفة تتضمن برامج مثل التعلم الآلي والتعلم العميق حيث يمكن أن يؤدي تنفيذ الذكاء الاصطناعي في اليقظة الدوائية إلى زيادة الكفاءة في المتخصصين في اليقظة الدوائية والسماح لهم بأداء المزيد من الأعمال التي تضيف قيمة أكبر.
لقد حقق الذكاء الاصطناعي في اليقظة الدوائية العديد من التطورات، ولكن هذه ليست سوى البداية. فالمجال واسع للنمو والتطور ويمكن أن يبدأ بمتخصصي اليقظة الدوائية. فالخبراء في مجال الذكاء الاصطناعي ليسوا على دراية بالفروق الدقيقة التي ينطوي عليها تفسير بيانات سريرية محددة، مثل التصوير بالرنين المغناطيسي، والأشعة المقطعية، وتخطيط القلب، وغيرها من العلامات المخبرية التي قد تكون ضرورية لإجراء تحليل اليقظة الدوائية. وبالمثل، فإن الخبراء في مجال اليقظة الدوائية ليسوا على دراية جيدة بالوظائف والأنظمة المختلفة المشاركة في برامج الذكاء الاصطناعي. إذا كان المزيد من المتخصصين في اليقظة الدوائية على استعداد للتوسع خارج نطاق ممارستهم الحالي والتعمق في عالم الذكاء الاصطناعي، فيمكن تطوير عالم سلامة الأدوية.
وبالنظر إلى المستقبل، إن التكنولوجيا ستستمر في التطور، استعدادًا للتحدي التالي في مجال الرعاية الصحية. لأنه، كما نقول، سيكون هناك دائمًا «ماذا بعد!» و أيضا من الضروري بناء البنية التحتية ووضع الأساس في أوقات الهدوء، حتى تكون جاهزة للاستخدام في وقت الأزمات.
وللحديث بقية
الدكتور ياسر فرغلي، رئيس تنفيذي سابق ومدير عام لشركات دولية ومحلية، تمتد خبرته لأكثر من ثلاثون عامًا في منطقة الشرق الأوسط في مجالات التسويق والمبيعات وإدارة الشركات، حاصل على بكالوريوس صيدلة من جامعة الاسكندرية وشهادة في التسويق من المعهد الأوربي لإدارة الأعمال بفرنسا، «INSEAD»، كما أنه محاضر في كلية الأعمال بالجامعة الأمريكية بالقاهرة .
للتواصل مع الكاتب: yfarghal@yahoo.com