كنت فى مطلع الألفية أعمل باحثا اقتصاديا فى مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء. كان المركز حينها تحت رئاسة رجل يحسن القيادة، متطلع إلى التحديث وهو المهندس رأفت رضوان، وقد أدار المركز كمخزن ووعاء للأفكار والدراسات والنماذج التى لا غنى عنها لعملية صنع القرار. كانت قطاعات المركز تنقسم إلى تخصصات مختلفة، وتستخدم أدوات حديثة فى البحث والتنبؤ.
عهد إلى ذات مرة بالبحث فى أثر اتفاقية «تريبس» TRIPS على صناعة الدواء فى مصر. بالفعل تشكل فريق عمل مناسب لدراسة الموضوع من جوانبه الاقتصادية والقانونية والفنية. فى سبيل إعداد الدراسة التقيت عددا من رؤساء شركات صناعة الدواء فى مصر، وتعلمت مصطلحات لم أكن أعرفها من قبل، مثل الدواء الجنيس أو المثيل generic drug والمادة الفعالة، والمجموعات الدوائية، والترخيص الإجبارى.. إلى غير ذلك من مصطلحات.
***
تناولت الدراسة بصفة رئيسية عرضا للآثار المتوقعة على صناعة الدواء فى مصر نتيجة تطبيق اتفاقية حماية حقوق الملكية الفكرية «تريبس» من الناحية الاجتماعية، متمثلة فى الصحة العامة، وقدرة قاعدة عريضة من السكان على توفير الأدوية الأساسية، ومن الناحية الاقتصادية متمثلة فى تطور صناعة الدواء فى مصر والدول النامية، والفرق الكبير بين سعر الدواء الأصلى والدواء المقلد الذى يمكن توفيره للفقراء.
وقد خلصت الدراسة إلى عدد من التوصيات أهمها:
- التركيز على صناعة الأدوية البديلة لتلك التى يتوقع ارتفاع أسعارها بعد تطبيق الاتفاقية، شريطة أن يتحقق من هذا الدواء البديل نفس الأثر الطبى للدواء باهظ الثمن.
- إقناع مجلس حقوق الملكية الفكرية بالموافقة على قيام الدول النامية بالاستفادة من «الترخيص الإجبارى» فيما بينها، وليس بالضرورة أن يقتصر الانتفاع به داخل الدولة التى يسمح لها بإصداره، مما يعطى ميزة تنافسية لمصر ينتج عنها اتجاه عدد من الدول النامية غير المصنعة للتصنيع فى مصر ما تم الترخيص لها بإنتاجه كدواء بديل.
- إعادة تقييم وضع مصر بين الدول المصنعة للدواء لتشغل مركزا «واقعيا» متأخرا يتناسب مع قدراتها التصنيعية الحقيقية، حيث تصنف مصر بين المجموعة الوسطى من بلدان العالم، والتى تملك قدرات تصنيعية متوسطة، بينما يعتمد تصنيع الدواء فى مصر واقعيا على التجميع. من شأن إعادة التصنيف وضع مصر فى مجموعة تسمح لها بالحصول على الامتيازات والإعفاءات الممنوحة للدول ذات التصنيف المتأخر.
- التفاوض الثنائى بين الحكومة والشركات العالمية المصنعة للدواء فى مصر.
- تذليل العقبات أمام المصنع الأجنبى حتى يتمكن من إنتاج الدواء باهظ الثمن بتكاليف منخفضة.
- العمل على الحد من تقلبات سعر الصرف لصالح الدول النامية بالحد من تدفق رءوس الأموال من الدول النامية إلى الدول المتقدمة.
- تنسيق جهود الدول النامية للتأكيد على جدوى تطبيق التمييز السعرى ليباع الدواء فى مصر والدول النامية بأسعار منخفضة نسبيا.
***
فوجئت حينها بعدد من الإحصاءات التى أكدت لى أن نسبة المصنع محليا من أدوية علاج السرطان تزيد عن 80%، ومن المسكنات ومضادات الالتهابات 65.5%، ومن علاج أمراض السكر ما يزيد عن 72%!.
لكن أبرز المفاجآت التى قابلتنى أنا وفريق البحث هى أن الأزمة الحقيقية التى تعترض صناعة الدواء فى مصر حينها وربما إلى الآن لم تكن اتفاقيات حقوق الملكية الفكرية واقتراب تفعيلها، أو أى شكل من أشكال تحرير التجارة، بل إن الأزمة الحقيقية تتمثل فى آلية تسعير الدواء. وتجدر الإشارة هنا إلى واقعة لطيفة كان بطلها أحد رؤساء شركات الدواء المحلية، والذى كنا فى زيارة إلى مصنعه، وبعد انتهاء الجولة جلسنا فى مكتبه فأمسك بيد بعلبة مناديل ورقية محلية الصنع، وأمسك بعلبة دواء بيده الأخرى ثم أخبرنا إنها مصنفة لعلاج السرطان، وصعقنا بحقيقة أن دواء المرض العضال يباع بسعر أقل من المناديل الورقية!
وبالبحث فى آليات التسعير الدوائى عالميا تبين أنه يشكل أزمة ويثير جدلا فى غير دولة حتى الولايات المتحدة الأمريكية نفسها. حينها قامت إحدى الجهات الأمريكية المحايدة فى سوق الدواء بمراجعة تسعير دواء جديد بالغ مصنعوه فى تحديد تكاليف اكتشافه وتصنيعه، حيث قامت الشركة صاحبة براءة الاختراع بإضافة قيمة أبحاث السوق إلى نفقات تصنيع الدواء، مما قضت المحاكم الأمريكية باستبعاده لينخفض بذلك سعر الدواء الجديد إلى نحو 10% من قيمته الأولى!، علما بأن الولايات المتحدة لم تكن تنتهج آلية التسعير الجبرى، بل تترك المنتج حرا فى تحديد أسعار منتجاته، على خلاف غالبية الدول التى إما أن يوجد بها نظام تأمين صحى شامل وتفرض قيودا على تسعير الدواء ضمن حدود سعرية معينة، أو يوجد بها لجان لتسعير الدواء وفقا لمعايير محددة مثل مصر.
تحول اهتمام البحث منذ ذلك الحين ليصبح منصبا على العقبات الفعلية التى تواجه الصناعة وتطورها، وفى مقدمتها أزمة التسعير غير العادل للدواء وتداعياتها على المصنعين، الذين لن يجدوا حافزا للبقاء فى مصر والإنتاج مع البيع بالخسارة أو بغير ربحية تذكر.
تواصلت من فورى بصفتى قائد فريق البحث مع وحدة تسعير الدواء بوزارة الصحة، والتى كانت تترأسها سيدة فاضلة، اهتمت فى البداية بموضوع البحث وتضامنت مع مطالب الشركات العادلة. فما كان منى إلا أن دعوت رؤساء كبرى شركات الدواء العاملة فى مصر لحضور ورشة عمل بمركز معلومات مجلس الوزراء لعرض مطالبهم بشأن تسعير الدواء، والغريب أن جميع الشركات استجابت لدعوة باحث شاب وأكدوا الحضور، رغم أن الدعوة وصلتهم قبلها بيومين فقط!
بسرعة مذهلة صدرت التعليمات من رئيس الوزراء الدكتور عاطف عبيد بإلغاء الاجتماع بإيعاز من وزارة الصحة التى تغير موقفها من البحث إلى النقيض. وظن رئيس القطاع المعنى بمركز المعلومات أننى لابد مواجه لغضب رئيس المركز، ومن ورائه رئيس الوزراء شخصيا! فأعفيته من الحرج، وتحملت المسئولية كاملة عن التجرد لعلاج الأزمة بشكل عملى، وعدم الاكتفاء بمجرد البحث النظرى. اللطيف أن رئيس المركز اتصل بى على هاتفى الخاص (وكان حدثا يومها) وشكرنى على التحرك الإيجابى وروح المبادرة، وطلب منى بمنتهى الأدب أن أرجئ الورشة بعض الوقت، لأن رئاسة الوزراء تخشى أن يتحول الاجتماع إلى ما يشبه التظاهرة ضد سياسة تسعير الدواء فى توقيت حرج. كان هذا درس من الله بأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وبأن السعى الصادق لابد أن يكافأ ولو بكلمة طيبة، وبأن الإدارة الواعية المنصفة تنتصر للموظف المجتهد مهما كانت الظروف.
***
النتيجة أن الأزمة ظلت قائمة، وأن المسكنات التى ظلت الحكومة تتعامل بها مع شركات تصنيع الدواء كان تأثيرها مؤقتا، سرعان ما يزول ويدفع المواطن ثمن تجدد الأزمة فى صورة اختفاء للأدوية الضرورية، وارتفاع مفاجئ فى تكاليف العلاج على هيئة صدمات ناتجة عن توقف تصنيع الدواء المثيل، واستيراد الدواء من الخارج بأسعار كبيرة.
تمر السنون وتطفو على السطح من جديد أزمة تسعير الدواء، وتثار فى لجان مجلس النواب، وتصدر بشأنها قرارات وزير الصحة بمراجعة آليات التسعير مثل القرار 373 لسنة 2009 والقرار رقم 499 لسنة 2012 والذى أثار هواجس الحقوقيين نظرا لانتصاره نسبيا لمطالب تحرير سعر الدواء نسبيا… لكن هل هناك حل ناجع عادل للتفاوت المتجدد فى تقدير أسعار الدواء بين المنتج والمستهلك؟! وهل يسد الإنفاق الحكومى على الصحة والذى يفرضه الدستور جانبا من الفجوة بين التكلفة والسعر فى مجال صناعة الدواء المحلى؟! الإجابة لابد لها من مقال آخر، أتمنى أن يساهم فى كتابته أصحاب التخصص والاهتمام وفى انتظار مساهماتهم هذه المرة بغير منع ولا مصادرة للرأى.