في الوقت الذي تتركز فيه أنظار المستثمرين على المجالات التكنولوجية الحديثة، مثل الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات وغيرها، يبدو أن أحد أقدم أشكال الاستثمار يزدهر خلال الأعوام الأخيرة، وهو الاستثمار في الرعاية الصحية.
أسباب النمو
وتقدر دراسة حديثة لـ”دلويت” إجمالي الإنفاق على الخدمات الصحية حول العام بحلول العام المقبل 2020 بحوالي 8.7 تريليون دولار، مرتفعًا عن قيمته السابقة والبالغة 7 تريليونات دولار عام 2015، ومن المتوقع وصوله إلى 10.5 تريليون دولار في غضون 3 أعوام فحسب.
واللافت هنا أن قرابة 47% من الإنفاق العالمي على الصحة يأتي في قارة أمريكا الشمالية، بينما تشكل مع أوروبا حوالي 70% من الإنفاق العالمي على الرعاية الصحية على الرغم من أن تعداد سكان القارتين مجتمعتين لا يتعدى 20% من تعداد سكان العالم.
وهناك العديد من العوامل التي تجعل الرعاية الصحية من ضمن أكثر المجالات نموًا حول العالم، ولعل أهمها نظرية المجتمع الشائخ، والذي يشير إلى تزايد متوسط الأعمار حول العالم لا سيما في الدول المتقدمة (وهي الأكثر إنفاقًا على الرعاية الصحية).
وتتعمق الظاهرة في دولة مثل اليابان حيث 30% من السكان فوق سن 65 عامًا، وتبلغ النسبة نفسها 21% في أوروبا ومن المتوقع استمرارها في الارتفاع خلال السنوات المقبلة حال استمرار التحسن في الرعاية الصحية وتراجع معدلات المواليد الجدد.
ربحية عالية ولكن
وهناك ملاحظة هامة هنا أن الإنفاق الكبير على الصحة لا يضمن بالضرورة مستويات جيدة من الرعاية الصحية (وإن كان يسهم في ذلك بصورة أساسية بالطبع)، حيث تنفق الولايات المتحدة حوالي 16.9% من الناتج الإجمالي على الرعاية الصحية لكن دون أن تكون الدولة الأولى في العالم في هذا المجال.
ويرجع هذا إلى أكثر من عامل لعل أهمها تأثير العامل البشري الكبير على الرعاية الصحية، فضلًا على تأثر مستوى الصحة العامة في أي بلد بعوامل أخرى غير الإنفاق على الصحة، ومن بينها العادات الغذائية العامة، وأوقات العمل والدراسة، وحالة المرور، والظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تؤثر على الصحة بالتأكيد بشقيها الجسدي والنفسي.
وتتباين نسب الربحية في قطاع الرعاية الصحية، ولكن تقدير “فوربس” لها بحوالي 27% كمتوسط حول العالم، غير أن الشاهد أن القطاع الصحي حول العالم به معضلة تتمثل في حصول بعض المنشآت على أرباح كبيرة للغاية بينما تعاني بعض المنشآت ضعف الإيرادات أو حتى الخسائر.
ويرجع هذا إلى تأثير ما تصفه المجلة بالتباين الشديد في نوعية الاستثمارات في هذا المجال، فبعضها يبدو مهتمًا بصورة أكبر بالجانب الإنساني بينما لا يهتم آخرون إلا بالربحية.
مظلة التأمين وتأثيرها على الاستثمارات
وكشفت دراسة أجراها مركز “راند” للدراسات على سبيل المثال أن المنشآت الطبية في الولايات المتحدة تجعل المريض المنفرد يدفع 240% من المبلغ الذي يدفعه هذا الذي يحصل على الرعاية الصحية في إطار مظلة التأمين الصحي، بما يعكس فارقًا كبيرًا في الإيرادات في التعامل بين الشقين.
تقدر الدراسة أن الأمريكيين (بشكل جمعي) يتلقون الخدمات الصحية بتكلفة تقل 7.7 تريليون دولار بين عامي 2015- 2017 عما سيكون عليه الأمر إذا كان نظام الرعاية الصحية متروكًا للمنافسة وفقط، ودون وجود مظلة من التأمين الصحي سواء العام أو الخاص.
وفي بعض الأحيان يكون لوجود مظلة شاملة للتأمين نتائج سلبية، وهو ما يتضح في البرازيل مثلًا حيث فقد القطاع التأمين الصحي الخاص حوالي 2.5 مليون عميل بين عام 2014-2016 بسبب الارتفاع المضطرد في نسب البطالة، وبالتالي سقوط الكثيرين من مظلة التأمين الصحي التابع لتلك الشركات.
كما خاضت البرازيل تجربة فريدة في المجال الصحي من الناحية الاقتصادية، حيث أدى حكم للمحكمة العليا البرازيلية باعتبار العلاج حقًّا للجميع والسماح للبرازيليين بتلقي العلاج في العديد من المستشفيات الخاصة ضمن مظلة التأمين الصحي العام إلى جعل الاستثمار في الصحة أقل جاذبية بالنسبة للشركات الخاصة.
لذا فعلى الرغم من أن وجود مظلة للتأمين الصحي قد يكون مفيدًا للمستخدمين في توفير نفقاتهم على الرعاية الصحية، إلا أن عدم وجود هامش مناسب من الربحية للمنشآت الطبية قد يدفع المستثمرين للنأي بأموالهم عنها، مما يتسبب إن عاجلًا أو آجلًا في تأثر الخدمات الصحية سلبًا.
عدالة ومستقبل “آلي“
ومن ضمن المميزات الرئيسية للإنفاق على الصحة أنها أحد أكثر أشكال النفقات “عدلًا” في التوزيع بين عناصر العملية الإنتاجية، ففي الولايات المتحدة يبلغ الإنفاق على الرعاية الصحية بالكامل حوالي 3 تريليونات دولار سنويًا، يبلغ نصيب الأطباء ومساعديهم منها حوالي 750 مليار دولار.
ويعكس هذا حصول العمالة على أجور تصل إلى 25% من إجمالي النفقات على القطاع الصحي، بينما لا تتجاوز تلك النسبة 2-10% في صناعات وخدمات مثل التكنولوجيا والاتصالات والطاقة وغيرها من المجالات كثيفة الاستخدام للأبحاث والتطوير.
ولذلك تزداد أهمية البحث الذي أجراه المنتدى الاقتصادي العالمي حول مدى رضا المديرين عن مستوى المهارات التي يتمتع بها العاملين في القطاع الصحي، حيث قال 6 من كل عشرة مديرين أنهم راضون عما يتمتع به العاملون من مهارات، ويعكس هذا وجود نسبة 40% غير راضين وهي نسبة عالية في قياس عدم الرضا.
ولذلك تكشف دراسة “برايس ووترهاوس كوبرز” أن 39% من المديرين التنفيذيين لشركات الرعاية الصحية يستثمرون في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، ليس فقط في كيفية الحصول على تشخيص إلكتروني ولكن في أداء الأعمال الروتينية مثل جداول متابعة المرضى وتكلفة علاجهم.
تكيف مع تكنولوجيا المستقبل
ويشير تقرير لـ”برايس ووترهاوس كوبرز” إلى تزايد الإنفاق بشكل كبير للغاية على ما يعرف بالتشخيص الإلكتروني، ويقصد به استخدام الروبوت وأجهزة الكمبيوتر في التشخيص، حيث أنفق المستثمرون 12.5 مليار دولار على هذا الشكل من العلاج الإلكتروني عام 2017.
ويشكل هذا زيادة قدرها %230 في تمويل الجزء المتعلق بالعلاج الإلكتروني بينما لم تتعد الزيادة في الإنفاق على العلاج بشكل عام خلال هذه الفترة 78%، بما يعكس توجهًا واضحًا للاستثمار في أشكال العلاجات الإلكترونية.
وتقدر الدراسة أنه بحلول نهاية العام الحالي وبداية العام المقبل فإن أجهزة متطورة ستدخل في علاج أمراض كثيرة أبرزها السكري واختلالات الجهاز العصبي، في ظل تقديم العديد من الشركات لأجهزة ذكية يمكن استخدامها في هذا الغرض.
ولذلك تتوقع الدراسة أن يفقد 20% من العاملين في القطاع الصحي وظائفهم خلال العقد القادم، أو ربما قبل ذلك بسبب كثافة الاستثمار في القطاع التكنولوجي.
واللافت أيضًا أن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي العلاجي تحظى بدعم كبير من جانب المستهلكين، حيث يشير 54% من مستخدمي العلاج إلى أنهم سيقبلون على استخدامها فور توافرها، وفقًا لدراسة لمركز الصحة العامة الأمريكي.
وتزداد النسبة بشكل واضح مع هؤلاء الذين يعانون من أمراض مزمنة أو خطيرة أو ما توصف بأنها “بلا علاج ناجع” حيث يرون في مثل أشكال هذا العلاج وسيلة لتخطي ما يرونه صعوبات في العلاج التقليدي.
بل والغريب أن 74% من العاملين في المجال الصحي يرون أنه من الأفضل لهم العمل في مكان يوفر تدريبا على التعامل مع تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، لأن هذه التكنولوجيا تبدو “حتمية” لذا فإن التدرب عليها أفضل كثيرًا من تجاهلها.