الدكتور ياسر فرغلي يكتب… الذكاء الاصطناعي وصناعة الدواء «3».. الفحص عالي الإنتاجية

بدأنا منذ أسبوعين الحديث عما يمكن أن يقدمه الذكاء الاصطناعي لصناعة الدواء وبالأخص ما تطرقنا اليه الأسبوع الماضي ودوره في اكتشاف وتطوير الأدوية بشكل أفضل وأسرع وقد يكون بتكلفة اقل وبالتالي تحسين حياة الملايين من الناس.

اليوم نفرد المقال لدور آخر للذكاء الاصطناعي في صناعة الدواء وهو ما يعرف بالفحص عالي الإنتاجية «High throughput Screening» أو اختصارًا «HTS».

لقد وجد الذكاء الاصطناعي «artificial intelligence, AI» تطبيقات رائعة في الكيمياء الطبية لتصميم المركبات واكتشاف الأدوية منذ الستينيات، فقد لعبت إحدى أدوات التعلم الآلي «machine learning» المعروفة دورًا مهمًا للغاية للمساعدة في تحديد العديد من الجزيئات المستهدفة المفيدة من ملايين المركبات.

واليوم، توسع تطبيق الذكاء الاصطناعي ليشمل اكتشاف الأدوية بما في ذلك تحليل الصور والتحكم في الروبوتات، وقام أيضًا بتوسيع نطاق تطبيقه ليشمل تحديد الأهداف والمهل الزمنية للإجراءات والمساعدة بكفاءة في دراسات التجارب المعملية والسريرية.

لقد أتاحت التطبيقات الجديدة للذكاء الاصطناعي في عملية اكتشاف الأدوية للباحثين والعلماء الإشراف على النظام بدلاً من قيادة النظام يدويًا متفوقة على طرق الفحص التقليدية، علاوة على ذلك، يوفر الذكاء الاصطناعي جنبًا إلى جنب مع الأنظمة الآلية أتمتة «automation» استخدام التكنولوجيا والآلات لأداء المهام التي كان يتم إجراؤها يدويًا من قبل البشر، ودورة التصميم والبناء والاختبار والتعلم «Automation of Design, Build, Test and Learn, DBTL»، مما يؤدي إلى نظام أفضل لتصميم التجارب وتنفيذها وتحليل البيانات، وبالتالي تحسين التجارب وتنفيذها بشكل متكرر. وبالتالي فإن تطبيق الذكاء الاصطناعي يقلل من عدد التجارب التي يتعين إجراؤها ويساعد على تحقيق أفضل تحسين ممكن.

الفحص عالي الإنتاجية يترك بصمته

تستغرق عملية اكتشاف الدواء وهي عملية معقدة للغاية حوالي 12 إلى 15 عامًا، ويكلف تطوير دواء جديد وتقديمه إلى السوق أكثر من مليار دولار، ومع زيادة الأمراض والفيروسات والمرضى على حد سواء حتي أصبحت عملية اكتشاف أو تطوير الدواء تحتاج الي استثمارات ضخمة في التكنولوجيا وفي نفس الوقت خفض التكاليف بشكل عام وزيادة الكفاءة وإدخال الأدوية إلى السوق بشكل ملائم وأسرع من خلال طرق إنتاجية أعلى.

فقد بحثت العديد من الشركات عن تقنيات جديدة لمساعدتها على تحقيق هذا الهدف، وهنا اصبح للفحص عالي الإنتاجية «HTS» دورًا كبيرًا اكتسب شعبية واسعة النطاق خلال السنوات الأخيرة.

فهم عملية الفحص عالية الإنتاجية لاكتشاف الأدوية

تقوم طريقة الفحص عالي الإنتاجية وهي عبارة عن عملية آلية بفحص ملايين المركبات الكيميائية والبيولوجية في فترة زمنية قصيرة ومقابل أهداف محددة، بهدف تحديد الجزيئات المرشحة لمزيد من التطوير من أجل معرفة إمكانيتها العلاجية حيث تعمل على تسريع اكتشاف الأدوية بكفاءة، والتي من المحتمل أن تكون ذات نتائج علاجية كبيرة مقارنة بطرق الفحص الأخرى.

من مميزات هذه التقنية أنها تقوم بإجراء الفحوص على عدد هائل من المركبات، قد تصل إلى آلاف أو حتى ملايين المركبات في فترة زمنية قصيرة للحصول على نتائج فورية ويتطلب ذلك استخدام الأتمتة «automation» بشكل كبير، حيث يتم تنظيم العمليات بواسطة أنظمة روبوتية وأجهزة متقدمة لتحقيق أقصي كفاءة كما يتضمن الفحص عالي الإنتاجية استخدام تقنيات حديثة مثل الطيف الضوئي، الطيف الكتلي، التصوير الخلوي، وتقنيات البيولوجيا الجزيئية لتحليل التأثيرات البيولوجية.

وقد يتم اختبار مجموعة من المركبات بحثًا عن تأثيرات متعددة مع استخدام مكتبات كبيرة من المركبات المختلفة في عمليات «HTS»، وهذه المكتبات يتم فحصها بشكل شامل لتحديد المركبات المحتملة ذات الفعالية البيولوجية ويأتي ذلك كله مع تكلفة منخفضة.

وفقًا لتقرير جديد صادر عن شركة أبحاث السوق «MarketsandMarkets»، قُدرت قيمة سوق الفحص عالي الإنتاجية «HTS» من حيث الإيرادات بقيمة 25.7 مليار دولار في عام 2023 ومن المتوقع أن تصل إلى 44.5 مليار دولار بحلول عام 2028، حيث تنمو بمعدل نمو سنوي مركب قدره 11.6٪ من عام 2023 إلى عام 2028.

ويمكن تلخيص مساهمة الذكاء الاصطناعي في الفحص عالي الإنتاجية فيما يلي:..

تحليل ومعالجة البيانات

يولد الفحص عالي الإنتاجية كميات هائلة من البيانات، غالبًا في شكل صور أو أطياف أو مجموعات بيانات معقدة أخرى. يمكن لخوارزميات الذكاء الاصطناعي، وخاصة نماذج التعلم الآلي، تحليل هذه البيانات ومعالجتها بكفاءة، وتحديد الأنماط واستخراج المعلومات ذات الصلة.

التعرف على الصور

يقوم الفحص بإنشاء الصور لتقييم آثار المركبات على الأهداف البيولوجية. يمكن لأنظمة التعرف على الصور المعتمدة على الذكاء الاصطناعي تحليل هذه الصور بسرعة ودقة، وتحديد التغييرات الطفيفة التي قد تشير إلى الفعالية المحتملة أو سمية المركب.

الفحص الافتراضي «Virtual screening»

يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي للتنبؤ باحتمالية تفاعل مركب معين مع هدف محدد، يمكن للفحص الافتراضي، المدعوم بخوارزميات التعلم الآلي، تحديد أولويات المركبات للاختبار التجريبي، مما يوفر الوقت والموارد من خلال التركيز على المركبات المرشحة.

النمذجة التنبؤية «Predictive modeling»

يمكن تدريب نماذج التعلم الآلي على بيانات الفحص التاريخية للتنبؤ بالنشاط البيولوجي للمركبات الجديدة. تساعد هذه النمذجة التنبؤية الباحثين على تحديد الأولويات واختيار المركبات التي من المرجح أن تظهر التأثيرات العلاجية المطلوبة.

الأتمتة والروبوتات «Automation and Robotics»

غالبًا ما يتم دمج الذكاء الاصطناعي في الأنظمة الآلية التي تعمل على أتمتة عملية الفحص، يمكن لهذه الأنظمة التعامل بشكل مستقل مع إعداد العينات وتنفيذ الاختبارات وجمع البيانات، مما يزيد بشكل كبير من سرعة وكفاءة الفحص عالي الإنتاجية.

تحسين التصميم التجريبي «Experimental design»

يمكن أن تساعد خوارزميات الذكاء الاصطناعي في تحسين تصميم تجارب الفحص، ويمكنهم اقتراح الظروف الأكثر إفادة، مثل التركيزات، لتحسين كفاءة وفعالية عملية الفحص.

فرز النتائج والتحقق من صحتها

يمكن للذكاء الاصطناعي المساعدة في تحديد أولويات النتائج والتحقق من صحتها ويمكن لنماذج التعلم الآلي التنبؤ باحتمالية تقدم المركب في اتجاه تطوير الأدوية بناءً على البيانات التاريخية والخصائص الجزيئية المختلفة.

بروتوكولات الفحص التكيفي «Adaptive screening protocols»

يمكن تعديل عملية الفحص في الوقت الفعلي بناءً على النتائج المستمرة حيث تتيح هذه المرونة للباحثين اتخاذ قرارات تعتمد على البيانات وتحسين الموارد أثناء عملية الفحص.

من الضروري.. أن نفهم أن طريقة الفحص عالي الإنتاجية وحدها لا يمكنها تقييم الدواء المحتمل بشكل كامل حيث أن هناك حاجة لدراسات السمية Toxicity studies لإجراء هذا التقييم. ولكن، يعد الفحص عالي الإنتاجية أمرًا ضروريًا لاختصار الوقت الذي كان من الممكن إهداره في فحص المركبات التي يمكن ان يكون لها تأثير ضئيل أو معدوم على الهدف البيولوجي.

الخلاصة…

لقد أحدثت تقنية الفحص عالي الانتاجية تأثيرا كبيرا في صناعة الأدوية منذ طرحها في السوق قبل بضعة عقود. وبما أن هذه التقنية لا تزال جديدة نسبيًا، فإن المستقبل يبدو مثيرًا، ومع ذلك، فإن الطريقة التي تستخدم بها شركات الأدوية الفحص عالي الانتاجية هي التي ستحدث الفرق، نظرًا لأن هذه الشركات تتطلع إلى معالجة التحديات الصحية المستمرة وأن تكون في النهاية أكثر إنتاجية من منافسيها لإيصال أدوية جديدة إلى السوق أكثر فعالية واستهدافا «Targeted».

وللحديث بقية…

الدكتور ياسر فرغلي، رئيس تنفيذي سابق ومدير عام لشركات دولية ومحلية، تمتد خبرته لأكثر من ثلاثون عامًا في منطقة الشرق الأوسط في مجالات التسويق والمبيعات وإدارة الشركات، حاصل على بكالوريوس صيدلة من جامعة الاسكندرية وشهادة في التسويق من المعهد الأوربي لإدارة الأعمال بفرنسا، «INSEAD»، كما أنه محاضر في كلية الأعمال بالجامعة الأمريكية بالقاهرة .

للتواصل مع الكاتب: yfarghal@yahoo.com