الدكتور ياسر فرغلي يكتب… الذكاء الاصطناعي والدواء «2».. اكتشاف وتطوير الأدوية

في المقال السابق، بدأنا الحديث عن تعريف الذكاء الاصطناعي وأدواره المختلفة والمتنوعة في صناعة الدواء، واليوم نغوص بشكل أعمق فيما يمكن أن يؤديه في إكتشاف و تطوير الأدوية.

إن جسم الانسان معقد للغاية لذا يستغرق الأمر سنوات عديدة لاكتشاف دواء جديد واحد فقط لعلاج المرض بنجاح. إن عملية إنتاج دواء جديد تكون طويلة ومركبة وربما تستغرق ما بين 15 و20 سنة، ومن الوارد أن تفشل في نهاية المطاف، فهي تمر بمراحل الاختبار المعملي وما قبل السريري ثم الاختبار التطبيقي على عينات من المرض وصولا إلى اختباره على البشر، مع الاخذ في الاعتبار تكلفة ابتكارِ و طرح الدواءٍ في السوق لأكثر من مليار دولار، فيما تفشل قُرابةُ تسعين في المائة من الأدوية التجريبية التي يبتكرها البشر.

فهل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد العلماء على تطوير أدوية أفضل بشكل أسرع، وبالتالي تحسين حياة الملايين من الناس؟.

نحن نعيش حاليا في عصر يشهد سباق شرس وتنافسي بين العلماء والباحثين و شركات الادوية العملاقة و المعامل المتخصصة متسلحين بأجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم والمحملة بالبرمجيات والخوارزميات العبقرية في مختبراتهم وبجانبهم الفنيين والمحللين الذين يعملون من اجل ذلك.

تقنيات جديدة وسريعة جدًا

فهاهم الباحثون في جامعة أوهايو الامريكية توصلوا إلى تقنية للذكاء الاصطناعي اطلقوا عليها «G2Retro» قادرة على معالجة مجموعة واسعة من التفاعلاتِ الكيميائية المحتملة حيث تختار بدقة التفاعلاتِ التي ستعمل بشكل أفضل لإنشاء دواء معين، وللتحقق من فعالية الذكاء الاصطناعي في إنتاج الدواء بشكل أكبر، أجـرى الباحثون دراسة لمعرفة ما إذا كان بإمكان تقنية «G2Retro» التنبؤ بدقة بمكوِنات أربعة عقاقير معدة لعلاج فقر الدم والأمراض الجلدية ولعلاج قصور القلب وآخر لعلاج الالتهابات الفطرية لدى النساء وجاءت النتائج فوق التوقعات.

و في جامعة ماكمستر الكندية ومن أجل اكتشاف مضاد حيوي جديد، قام الباحثون بتدريب الذكاء الاصطناعي مستعينين بآلاف الأدوية المعروفة بدقة تركيبها الكيميائي، واختبروها يدويا على بكتريا «Acinetobacter baumannii» لمعرفة أي نوع بمكنه إبطاء أو قتل هذه البكتريا.

وزود الباحثون الذكاء الاصطناعي بالمعلومات حتى يتمكن من معرفة الخصائص الكيميائية للأدوية التي يمكن أن تهاجم هذه البكتيريا المسببة للأمراض. بعد ذلك، ترك الباحثون للذكاء الاصطناعي العمل على قائمة تضم 6680 مركبا كيميائيا كانت فعاليتها غير معروفة.

وأظهرت النتائج، التي نشرتها دورية «Nature Chemical Biology» أن الذكاء الاصطناعي استغرق حوالي ساعة ونصف لتحديد قائمة مختصرة. واختبر الباحثون 240 نوعا في المختبر وتوصلوا إلى 9 مضادات حيوية محتملة، من بينها مضاد حيوي قوي بشكل كبير وهو أباوسين «abaucin».

و في دراسة جديدة نُشرت في «Nature Machine Intelligence»، توضح أن تقنية الذكاء الاصطناعي، المسمى «Drug BANK»، يمكنه التنبؤ بما إذا كان الدواء المقترح سيتفاعل مع جزيئات البروتين «Protein Receptor» المستهدفة المقصودة داخل جسم الإنسان، لكن التكنولوجيا التي طورها الباحثون في جامعة شيفيلد وشركة أسترا زينيكا يمكن أن تفعل ذلك بدقة أكبر وتوفر أيضًا رؤية مفيدة لمساعدة العلماء على فهم كيفية تفاعل الأدوية مع مستقبلات البروتين «Protein Receptor».

كما ان الذكاء الاصطناعي لديه القدرة على معرفة ما إذا كان الدواء سينجح في الارتباط ببروتين مرتبط بالسرطان، أو ما إذا كان الدواء المرشح سيرتبط بأهداف غير مقصودة في الجسم ويؤدي إلى آثار جانبية غير مرغوب فيها للمرضى.

يستخدم العلماء في «University college of London» الذكاء الاصطناعي لتحسين مذاق الأدوية، من خلال الجمع بين سنوات من البيانات للتغلب علي واحدة من كبرى العقبات في رعاية الأطفال حيث يعد سوء الطعم من أهم العوائق التي تَحول دون تناول الأطفال الأدوية، ليس فقط في الحياة اليومية ولكن أيضاً في الالتزام بالأدوية التي يجب تناولها على المدى الطويل،

حيث تستخدم البيانات التي يتم جمعها بواسطة «اللسان الإلكتروني» لإنشاء نموذج الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بالطعم ويقوم النموذج الجديد بتقسيم الدواء إلى سلسلة من الوصفات الكيميائية التي تحدد المذاق ويتم تدريبه على رسم خريطة للتنبؤ بمستويات المرارة ويتم ذلك بسرعة لم يسبق لها مثيل.

4 مليارات دولار لعقار اختاره الذكاء الاصطناعي

ونظرًا لأن السباق محموم، فقد اشترت شركة تاكيدا فارمسيوتيكال اليابانية عقاراً لعلاج داء الصدفية مقابل أربعة مليارات دولار من شركة «Nimbus» الناشئة في مدينة بوسطن الأميركية في فبراير 2023؛ و استطاعت الحصول على هذا المركَب الذي اختاره الذكاء الاصطناعي في ستة أشهر فقط.

وسينتقل العقار إلى المراحل النهائية من التجارب السريرية خلال الأشهر المقبلة و إذا نجح العقار، فقد يصبح أحد العلاجات الأولى المختارة بمساعدة الذكاء الاصطناعي، وتشير تقديرات لمحللين في بنك و شركة الاستثمار جيفريز «Jefferies» إلى أنه قد يحصد مبيعات سنوية بنحو 3.7 مليار دولار.

أول عقار في العالم من ابتكار الذكاء الاصطناعي

وأخيرا و ليس آخر، استخدمت شركة إنسيليكو ميدسن  «Insilico Medicine»، التي يقع مقريها الرئيسيين في هونغ كونغ ونيويورك، الذكاء الاصطناعي لتطوير أول دواء تجريبي من ابتكاره لمرض التليف الرئوي المستعصي مجهول السبب «Idiopathic Pulmonary Fibrosis» ويعتبر العلاج في منتصف مرحلة التجارب في الولايات المتحدة والصين مع صدور بعض النتائج المتوقعة في أوائل عام 2025.

ويتم مراقبة نتائج تجارب عقار «إنسيليكو» عن كثب في صناعة الأدوية نظراً لاستخدام الشركة في تقنية الذكاء الاصطناعي طريقة جديدة لمقاومة المرض القاتل، وإنتاج فئة جديدة من الجزيئات لعلاجه.

و لا ننسي ان جائحة كوفيد19 سرعت من وتيرة استغلال شركات صناعة الأدوية للذكاء الاصطناعي، حيث اتجهت فايزر إلى الذكاء الاصطناعي لتطوير لقاح كوميرناتي «Comirnaty» لمكافحة فيروس كوفيد، وعقدت شراكة مع بيونتيك لتصنيعه.

كما توسّعت الشركة بشراكتها مع إكستال باي «XtalPi»، وهي شركة متخصصة في اكتشاف الدواء مقرها مدينة شينجنن الصينية، لتسريع الاستحضار الكيماوي لحبوب باكسلوفيد «Paxlovid» المضادة لفيروس كوفيد.

استثمار مغري جدًا

يُقدِّر بنك «Morgan & Stanley»، أن استخدام الذكاء الاصطناعي على مدى العقد المقبل في المراحل الأولية من تطوير العقاقير قد يعني إضافة 50 علاجاً جديداً بمبيعات تتخطى 50 مليار دولار.

وتشير تقديرات من شركة الأبحاث ديب فارما إنتليجنس «Deep Pharma Intelligence» إلى أن الاستثمارات في شركات اكتشاف الدواء باستخدام الذكاء الاصطناعي ارتفعت إلى ثلاثة أضعاف خلال الأعوام الأربعة الماضية، وصولاً إلى 24.6 مليار دولار في 2022.

بينما تستثمر شركات الأدوية في جميع أنحاء العالم بكثافة في الذكاء الاصطناعي، لا يوجد حتى الآن دليل واضح على أن هذه التكنولوجيا قد تتوصل إلى اكتشاف علاجات منقذة للحياة حيث واجهت سلسلة من مركبات الأدوية الأخرى التي اعتمدت على الذكاء الاصطناعي انتكاسات ولكن اذا قدر لعقار إنسيلكو النجاح فسيغير ذلك كل شيء.

إلي جانب ما تم ذكره سابقا فإن للذكاء الاصطناعي أدوار أخري متعددة لتسريع وتحسين المراحل المختلفة لعملية تطوير الأدوية وسيأتي ذلك من خلال شراكات علمية وأكاديمية جديدة وتعاون دولي مع الأخذ في الاعتبار ان الذكاء الاصطناعي سيعمل جانبا الي جنب مع الكوادر البشرية المدربة ولكن ثمة تحديات تطرح بشأن حقوق الملكية الفكرية في ظل زيادة توظيف الذكاء الاصطناعي من أجل تطوير الأدوية وكذلك حول مدي ضمان امتثال أنظمة الذكاء الاصطناعي الخاصة بها للوائح والمعايير ذات الصلة.

ختامًا:

هل سيأتي الوقت ويكون في مصر مركز لأبحاث وتطوير الدواء باستخدام الذكاء الاصطناعي حيث أن الجانب الإيجابي في الأمر هو أن الدواء سيجري تطويره في مدة أقصر، ومن الوارد أن يكون بسعر أقل ويساعد على علاج عدد أكبر من المرضي.

وللحديث بقية…  

الدكتور ياسر فرغلي، رئيس تنفيذي سابق ومدير عام لشركات دولية ومحلية، تمتد خبرته لأكثر من ثلاثون عامًا في منطقة الشرق الأوسط في مجالات التسويق والمبيعات وإدارة الشركات، حاصل على بكالوريوس صيدلة من جامعة الاسكندرية وشهادة في التسويق من المعهد الأوربي لإدارة الأعمال بفرنسا، «INSEAD»، كما أنه محاضر في كلية الأعمال بالجامعة الأمريكية بالقاهرة .

للتواصل مع الكاتب: yfarghal@yahoo.com